أطلس المغرب

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كل ما تريده موجود هنا .... مرحبا بك معانا


    معرفة المخاطب وأسلوب التفاهم 4

    lfirdawsse
    lfirdawsse


    عدد المساهمات : 38
    تاريخ التسجيل : 27/08/2009

    معرفة المخاطب وأسلوب التفاهم 4 Empty معرفة المخاطب وأسلوب التفاهم 4

    مُساهمة  lfirdawsse الثلاثاء سبتمبر 01, 2009 8:00 am

    ح) النـزول بمنازل المخاطب

    يقتضي مستوى المخاطبين النـزول إلى مستواهم، فالمرشد والمبلّغ في هذه الحالة عليه أن يكلّمهم بقدر عقولهم. ويمكن أن نوضح هذه الملاحظة بالآتي:

    إن النـزول بمنازل المخاطب أخلاق إلهية، والرسول صلى الله عليه و سلم يدعونا إلى التخلق بأخلاق الله والقرآن الكريم بكامله كلام إلهي تنـزل على عقول البشر. تُرى كيف كان حالنا لو لم ينـزل القرآن منسجماً مع استعداداتنا وعقولنا وطاقاتنا.

    نعم، لو كان الله سبحانه تكلم في قرآنه المجيد بمثل ما تكلم به موسى عليه السلام في جبل الطور لما كنا نطيق كلامه. وأيضاً لو كان القرآن قد نـزل بأسلوب يفهمه ذوي القرائح الداهية ما كان يستفيد منه تسعة وتسعون بالمائة من الناس. والحال أن الأمر ليس هكذا وإنما الله سبحانه وتعالى ينظر إلى وضع مخاطبيه فيخاطبهم وفق ذلك بما يلائم إرادته وعظمته وربوبيته. ومن المعلوم أن كلامه جل وعلا لا يقتصر على القرآن وحده، إذ له سبحانه كيفيات كثيرة من كلامه المنسجم مع عظمته ولكن نحن لا نعلمها. والذي نعلمه هو: أنه جل وعلا خاطب الإنسان بمستوى إدراكه وفهمه بسر الأحدية.

    أجل، نحن نجد فهمنا ومستوى إدراكنا في القرآن الكريم، وكأن القرآن يخاطب كل إنسان بمستواه، فمهما كان المستوى الفكري للقارئ يجد القرآن يخاطبه. حتى يشعر الإنسان في القرآن أن أحداً قريباً منه يعرّفه بأدق تفاصيل أسراره وخباياه.

    وكون القرآن على هذا الأسلوب طبيعي جداً، ذلك لأن القرآن كلام الله ذلكم الرب الجليل الذي خلق الإنسان من العدم وأنشأه في عالم المادة (الجسماني) وهو أعلم بما في قلبه كل آن، ثم نفث فيه الروح من عالم الأمر، فلا الروح تعرف معرفة تامة ما الجسد الذي دخلت فيه، ولا الجسد يعرف تماماً ما الروح التي تديم حياته. والأعلم بهما مَن خلَقَهما ومَن جمعهما. والقرآن كلام هذا الرب الجليل.

    فهذا الكلام الإلهي من حيث مضمونه هدىً للناس وضمان استقامتهم، ومنبع إرشاد الأنبياء والمرشدين من حيث أسلوب الخطاب، لذا يسددون نظرهم فيه ويستلهمون منه العلم والمعرفة.

    إنه لحقيقة واقعة أن القرآن يخاطب مستويات مختلفة، ذلك لأنه كلام الله الذي خلق الإنسان وأنشأه بجميع مظاهره المختلفة. فالألوف من العلماء الأعلام قد بينوا اختلاف مستوى فهم وتمايز بعضهم عن بعض لدى طرح ملاحظاتهم وفكرهم حول القرآن. وحتى في خير القرون، كان الأمر أيضاً على هذا النمط، بمعنى أن فهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم للقرآن وإدراكهم له ليس كله بمستوى واحد. واختلاف المستويات هذه لا يحجب الاستفادة من القرآن.

    تاملوا أن بدوياً يأتي - في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم - ويستمع إلى القرآن، ويستفيد منه، وفي الوقت نفسه يستفيد منه شعراء أعلام عُلّقت قصائدهم على جدار الكعبة. ولبيد واحد منهم، والذي لم يقرض شعراً بعد سماعه القرآن. والخنساء عملاقة الشعراء في ذلك العصر أصبحت لا تترنم إلاّ بالقرآن. نعم هؤلاء كانوا مخاطبي القرآن وينـزل إلى عقولهم وقلوبهم زلالاً. وقد اصبح أفذاذ العقلاء من مخاطبيه حيث تتلمذوا عليه من أمثال إبن سينا، إبن رشد، الفارابي، الإمام الغزالي، فخر الدين الرازي وكذا أبو حنيفة والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل والإمام مالك ومن لا يمكن حصر أسمائهم. بمعنى أن القرآن كان يخاطبهم أيضاً بالأسلوب نفسه، أي بمستواهم. فلقد خاطب القرآن وفق إدراك الإنسان آخذاً بنظر الاعتبار مستواهم الفكري. إن هذا الجانب من القرآن عجيب إلى حد، أن كل من يستمع إليه بقلب شهيد يعتقد أنه هو المقصود الوحيد في الخطاب. وإن علماء عباقرة بزّوا في ميادين العلم والتقنية التي تسجل يومياً خطوات واسعة متقدمة، حتى غدت موضع انبهار العقول. فهؤلاء العلماء يجدون أفضل من يحثهم ويعينهم على تنمية ما وضعه الله سبحانه فيهم من قابليات كامنة، وفي أثناء اكتساباتهم في ممارساتهم القوانين الفطرية التي وضعها الله سبحانه أيضاً في الكون، هو الكلام الأزلي للخالق الكريم، وهو القرآن الكريم.

    نعم، إن ألوفاً من أرباب العلم - رغم اختلاف مستوياتهم - ينهلون من زلال القرآن الكريم ويتفيأون بظلاله. فالكيمائي يستطيع أن يسمع القرآن كأنه يخاطبه وحده. أهو وحده هكذا؟ بل والفيزيائي أيضاً والفلكي أيضاً وكذا البيولوجي حتى الرياضي والهندسي، كل منهم يستطيع أن يستمع للقرآن وكأنه يخاطبه وحده. والزراعي يعتقد أن القرآن يبحث من البداية إلى النهاية عن الزراعة. وبالنسبة لطبيب ماهر يجد القرآن كمركز صحي نوراني رائق، يتكلم وينور ويهدي ويفتح آفاقاً جديدة للأمراض ويقوم بضمادهم أكمل من أي مركز دراسات وأبحاث. ويمكن إيراد الكلام نفسه لفروع العلم الأخرى. بمعنى أن الفلاح الذي يحرث الأرض في القرية والعالم الذي يفتح آفاق السموات بمجرد لمسه زراً صغيراً، هما من مخاطبي القرآن معاً.

    فهذا القرآن العظيم الذي يغور في أعماق الأعماق يعلّمنا الدروس وفق أحوال وظروف كل إنسان. مع أنه يبحث عن كل علم من العلوم بأسلوب مقتضب فليس هو موسوعة علمية قط. لأن هدفه الوحيد هو الإنسان، ليأخذ بيده ويُصعده إلى السماء ومن هناك إلى سمو الأبدية ورفعتها. وهو في أثناء عمله هذا يعلّم أصول الإرشاد أيضاً. فالمرشد أو المبلّغ عندما يرى هذه الألوان المختلفة من الخطابات للقرآن ويعيش بها حياته، لا شك أنه يضع حالة المخاطب ومستواه نصب عينه دائماً ويجعل كلامه وفق ذلك، ومع أن هذا يتطلب جهداً منه إلاّ أنه مفيد جداً بل ضروري أيضاً.

    فالذين اعتادوا أن يستعملوا الجمل المبهمة والمغلقة والمحمّلة بالتعابير الفلسفية لأجل إظهار الوقار والفخامة في كلامهم، على خطأ عظيم. لأن المهم في الإرشاد هو حسن فهم المخاطبين للبلاغ، وهذا يقتضي أن يكون البلاغ واضحاً بيّناً دون إشكال ما أمكن، فالخطاب لا بد أن يكون بأسلوب يفهمه كل مستوى من المستويات بكل سهولة ويسر.

    فالشباب في الوقت الحاضر، غريب عليهم التعابير والاصطلاحات الدينية، فمن الضروري التكلم معهم بلغة يفهمونها. ويمكن أن نشبه هذا بكلامنا مع الأطفال، فكما أننا نساير خطوات طفل في الثالثة من عمره وقد أخذنا بيده، ونماشي كلامه ونضحك مثله ونراعي حالاته كلها. كذلك من الضروري أن نأخذ بنظر الاعتبار مستوى فهم المخاطبين في الإرشاد. فالكلام المفخم تجاه الأطفال، لا يثير فيهم إلاّ الضحك من دون أن يضيف شيئاً إلى جعبة معلوماتهم.

    عندما نفهّم الإسلام لجيلنا الحاضر، فالحاجة ماسة إلى الاقتداء بأسلوب تبليغ الرسول صلى الله عليه و سلم وإرشاده وليس إلى الأسلوب الفلسفي لبرجسون وباسكال وأفلاطون وديكارت. فالرسول صلى الله عليه و سلم كان يخاطب دوماً بمستوى فهم الآخرين، فكان خطابه يسع جميع الناس، كل في موضعه، فكالطفل مع الطفل وكالشاب مع الشباب وكالعجوز مع العجوز. فهذا الأسلوب وهذه الأخلاق الإلهية هو أسلوب الأنبياء وأخلاقهم. ويروى عن سيد الأنبياء صلى الله عليه و سلم أنه قال: (إنّا معاشرَ الأنبياء أُمرْنا أن نُكلّم الناسَ على قَدر عُقُولهم)[6]، وفي حديث آخر: (أَنـزلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ)[7] يبين فيه قاعدة جليلة في الإرشاد لا يمكن تجاوزها.

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 4:09 am