إن المبلّغ يتفقد أحوال مخاطبه عن كثب، ويتصرف تجاه أخطائه برحابة صدر، فيتخذ تجاه المؤمن طور المروءة. أما تجاه أهل الكفر والإلحاد فيتصرف بالدراية والكياسة. وبهذه الأساليب يتمكن أن يتقرب إلى قلب مخاطبه ومنطقه من جهة محبباً إليه ما يريد تبليغه ويسوقه إلى القبول.
نعم المبلّغ يعرف جيداً أوضاع مخاطبه، فيبتعد كلياً عن كل ما ينفّره من أسلوب أو تصرف. فما يبلّغ إلاّ أموراً سامية طاهرة. ولاشك أن من يبلغ عن الله ورسوله صلى الله عليه و سلم وكتابه واليوم الأخر ويحبب ذلك إلى قلب مخاطبه، يقدر مدى أهمية عمله فيقوّم أحواله وأطواره وتصرفاته وفق تلك الأهمية. لأن أي امتعاض يستشعره المخاطب من أطواره، ربما يكون سبباً لتنفير ما هو مكلّف أن يحببه إليه. فهل من خسارة أفدح من هذا؟ وسنتحمل جميع المسؤوليات في الآخرة إن كانت نابعة من أحوالنا وسلوكنا.
تأملوا! كيف كان الرسول صلى الله عليه و سلم يبلّغ بأسلوب لا يُقحم مخاطبه في الشعور بالإثم. فلم يك يخاطب الكافر ولا المجرم كمذنب أمامه، بل كان يوجه كلامه بصورة عامة، دون تشخيص وتحديد. فكان يصعد المنبر ويرشد إلى أمر من الأمور الفرعية التي رأى تقصيراً فيها داخل الجماعة.
كان صحابي رضي الله عنه يدعو ربه ممداً يده إلى السماء رافعاً صوته، وهو قريب من مجلس الرسول صلى الله عليه و سلم. فهذا الوضع يخالف آداب الدعاء، ولكن الرسول صلى الله عليه و سلم بدلاً من أن يخاطبه ويبين خطأه، خاطب الجميع قائلاً: (ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ).[1]
(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه و سلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي وَالله لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا). فاشتد غضب الرسول صلى الله عليه و سلم من هذا الكلام وهو أعلم بالإمام، ومع هذا لم يستدعه ليحاسبه بل خطب بالناس مرشداً لهم وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ).[2]
هكذا كان أسلوبه صلى الله عليه و سلم تجاه أخطاء الآخرين، حيث كان يسعى لإنقاذهم، لذا قدم لهم كل مسألة من المسائل بأبسط أشكالها وأكثرها عملياً.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لا إِلَهَ إِلاّ الله تُفْلِحُوا).[3] ومن هنا نرى أنه خطأ جسيم أن تجعل المخاطب في حالة الشعور بالإثم، بل يقال ما يراد قوله دون تشخيص أحد من الناس، و يستفيد من هذا الكلام كلٌ حسب استعداده، كاستفادة الأشياء من أشعة الشمس. وبخلاف هذا الأمر يصعب التئام الجروح.
ب) الحذر من النقاش والمراء
إن المبلّغ حذر جداً من أن يؤول الكلام في الحوار إلى جدال ونقاش، إذ المتكلم في المجادلة والمناقشة هو "الأنانية". فهذا الجو الذي لا يراد به الوصول إلى الحق، يسلّم زمامه إلى الشيطان. ولهذا فمهما كان الكلام الذي نريد أن نبسطه للمخاطب مقنعاً ومؤدباً، لا يؤثر فيه ولا يجد القبول الحسن لديه. وإذا ما نظر إلى المسألة من زاوية نفسية المتحاورين يظهر أمامنا أن المراء لا خير فيه، لأنه مثلما نتهيأ للظهور على خصمنا كذلك المخاطب يتهيأ مثلنا في الأقل، ولا شك أن الأدلة التي نسردها لإثبات مقولتنا قد استعد هو لتفنيدها بأدلة أخرى. وهكذا يتحول الحوار في المراء إلى كلام عقيم ولو طال أياماً وليالي.
نعم، لقد دخل الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم مرة أو مرتين مناظرة وحاول إقناع مخاطبيه [4] إلاّ أن أمراً لا بد أن يُنبّه إليه هو أن الطلب كان يأتي من الجهة المقابلة، وفي مثل هذا الموقف لا يظل الرسول صلى الله عليه و سلم ساكتاً، لما يؤثر في القوة المعنوية لمستمعيه. ومع هذا فالذين أتوا لأجل المجادلة والنقاش أكثرهم لم يقتنعوا قناعة تامة وإنما أُلزموا إلزاماً، والإلزام لا يعني أن المخاطب قد اهتدى.
ولقد قابل الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم علماء بني إسرائيل طوال سنين، ولكن لم يحدث أن اهتدى واحد منهم في مثل هذا الوسط، علماً أنه رسول عظيم ينـزل الإلهام من العرش الإلهي إلى قلبه الطاهر كالشلالات، وخلقت الكائنات لأجله، وتزخر سيرته العطرة بالمعجزات. ومع هذا فكل من دخل ضمن نطاق المجادلة والمناقشة ما عرج إلى عرش الهداية وإنما ظل في ميدان الحوار والخطاب.
يخطر ببال عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً : سأهتدي إلى الإسلام إن كان -يقصد الرسول صلى الله عليه و سلم- هو الذي شمائله مذكورة في التوراة. يقول: (فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه و سلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ).[5]
وفي المراء أيضاً لا يخطر بالبال دائماً رضى الله سبحانه، لأن المبلّغ والمبلًّغ له، يكونان في حالة متوترة ومشدودة بالأنانية. ففي مثل هذا الجو الذي ليس فيه رضى الله سبحانه مهما كان الكلام جيداً لا يحصل منه الهداية والتأثير حيث الهداية بيد الله وحده، ولا ترد في مواضع ليس فيها رضاه سبحانه.
ج) الانخلاع من الأنانية
الأنانية عامل يعيق الهداية، ويزيل بركتها، سواءً للمبلّغ أو المخاطب. لذا فالمرشد والمبلّغ ينخلع من هذا الحس المضر، بل يقول ما يريد قوله ضمن تواضع وإنكار ذات. وبهذا ينقذ مخاطبه أيضاً من فكر مسبق ومن العناد. وفي الحقيقة لا يحق لأحد كائناً من كان أن يتشبث بالأنانية. ومن الواضح أن كثيراً جداً من الكلام الذي يستعمل فيه المبلّغ أنواعأً من العقل والمنطق والبلاغة والفصاحة مع ما ينساب من لسانه من البيان إلاّ أنه لا يؤثر على أحد قط. بينما من لا يكاد يبين ولكن فؤاده منسحق، إذا بكلامه يكون مؤثراً، ويجعله الله سبحانه وسيلة لهداية قسم من الناس.
نعم المبلّغ يعرف جيداً أوضاع مخاطبه، فيبتعد كلياً عن كل ما ينفّره من أسلوب أو تصرف. فما يبلّغ إلاّ أموراً سامية طاهرة. ولاشك أن من يبلغ عن الله ورسوله صلى الله عليه و سلم وكتابه واليوم الأخر ويحبب ذلك إلى قلب مخاطبه، يقدر مدى أهمية عمله فيقوّم أحواله وأطواره وتصرفاته وفق تلك الأهمية. لأن أي امتعاض يستشعره المخاطب من أطواره، ربما يكون سبباً لتنفير ما هو مكلّف أن يحببه إليه. فهل من خسارة أفدح من هذا؟ وسنتحمل جميع المسؤوليات في الآخرة إن كانت نابعة من أحوالنا وسلوكنا.
تأملوا! كيف كان الرسول صلى الله عليه و سلم يبلّغ بأسلوب لا يُقحم مخاطبه في الشعور بالإثم. فلم يك يخاطب الكافر ولا المجرم كمذنب أمامه، بل كان يوجه كلامه بصورة عامة، دون تشخيص وتحديد. فكان يصعد المنبر ويرشد إلى أمر من الأمور الفرعية التي رأى تقصيراً فيها داخل الجماعة.
كان صحابي رضي الله عنه يدعو ربه ممداً يده إلى السماء رافعاً صوته، وهو قريب من مجلس الرسول صلى الله عليه و سلم. فهذا الوضع يخالف آداب الدعاء، ولكن الرسول صلى الله عليه و سلم بدلاً من أن يخاطبه ويبين خطأه، خاطب الجميع قائلاً: (ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ).[1]
(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه و سلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي وَالله لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا). فاشتد غضب الرسول صلى الله عليه و سلم من هذا الكلام وهو أعلم بالإمام، ومع هذا لم يستدعه ليحاسبه بل خطب بالناس مرشداً لهم وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ).[2]
هكذا كان أسلوبه صلى الله عليه و سلم تجاه أخطاء الآخرين، حيث كان يسعى لإنقاذهم، لذا قدم لهم كل مسألة من المسائل بأبسط أشكالها وأكثرها عملياً.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لا إِلَهَ إِلاّ الله تُفْلِحُوا).[3] ومن هنا نرى أنه خطأ جسيم أن تجعل المخاطب في حالة الشعور بالإثم، بل يقال ما يراد قوله دون تشخيص أحد من الناس، و يستفيد من هذا الكلام كلٌ حسب استعداده، كاستفادة الأشياء من أشعة الشمس. وبخلاف هذا الأمر يصعب التئام الجروح.
ب) الحذر من النقاش والمراء
إن المبلّغ حذر جداً من أن يؤول الكلام في الحوار إلى جدال ونقاش، إذ المتكلم في المجادلة والمناقشة هو "الأنانية". فهذا الجو الذي لا يراد به الوصول إلى الحق، يسلّم زمامه إلى الشيطان. ولهذا فمهما كان الكلام الذي نريد أن نبسطه للمخاطب مقنعاً ومؤدباً، لا يؤثر فيه ولا يجد القبول الحسن لديه. وإذا ما نظر إلى المسألة من زاوية نفسية المتحاورين يظهر أمامنا أن المراء لا خير فيه، لأنه مثلما نتهيأ للظهور على خصمنا كذلك المخاطب يتهيأ مثلنا في الأقل، ولا شك أن الأدلة التي نسردها لإثبات مقولتنا قد استعد هو لتفنيدها بأدلة أخرى. وهكذا يتحول الحوار في المراء إلى كلام عقيم ولو طال أياماً وليالي.
نعم، لقد دخل الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم مرة أو مرتين مناظرة وحاول إقناع مخاطبيه [4] إلاّ أن أمراً لا بد أن يُنبّه إليه هو أن الطلب كان يأتي من الجهة المقابلة، وفي مثل هذا الموقف لا يظل الرسول صلى الله عليه و سلم ساكتاً، لما يؤثر في القوة المعنوية لمستمعيه. ومع هذا فالذين أتوا لأجل المجادلة والنقاش أكثرهم لم يقتنعوا قناعة تامة وإنما أُلزموا إلزاماً، والإلزام لا يعني أن المخاطب قد اهتدى.
ولقد قابل الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم علماء بني إسرائيل طوال سنين، ولكن لم يحدث أن اهتدى واحد منهم في مثل هذا الوسط، علماً أنه رسول عظيم ينـزل الإلهام من العرش الإلهي إلى قلبه الطاهر كالشلالات، وخلقت الكائنات لأجله، وتزخر سيرته العطرة بالمعجزات. ومع هذا فكل من دخل ضمن نطاق المجادلة والمناقشة ما عرج إلى عرش الهداية وإنما ظل في ميدان الحوار والخطاب.
يخطر ببال عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً : سأهتدي إلى الإسلام إن كان -يقصد الرسول صلى الله عليه و سلم- هو الذي شمائله مذكورة في التوراة. يقول: (فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه و سلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ).[5]
وفي المراء أيضاً لا يخطر بالبال دائماً رضى الله سبحانه، لأن المبلّغ والمبلًّغ له، يكونان في حالة متوترة ومشدودة بالأنانية. ففي مثل هذا الجو الذي ليس فيه رضى الله سبحانه مهما كان الكلام جيداً لا يحصل منه الهداية والتأثير حيث الهداية بيد الله وحده، ولا ترد في مواضع ليس فيها رضاه سبحانه.
ج) الانخلاع من الأنانية
الأنانية عامل يعيق الهداية، ويزيل بركتها، سواءً للمبلّغ أو المخاطب. لذا فالمرشد والمبلّغ ينخلع من هذا الحس المضر، بل يقول ما يريد قوله ضمن تواضع وإنكار ذات. وبهذا ينقذ مخاطبه أيضاً من فكر مسبق ومن العناد. وفي الحقيقة لا يحق لأحد كائناً من كان أن يتشبث بالأنانية. ومن الواضح أن كثيراً جداً من الكلام الذي يستعمل فيه المبلّغ أنواعأً من العقل والمنطق والبلاغة والفصاحة مع ما ينساب من لسانه من البيان إلاّ أنه لا يؤثر على أحد قط. بينما من لا يكاد يبين ولكن فؤاده منسحق، إذا بكلامه يكون مؤثراً، ويجعله الله سبحانه وسيلة لهداية قسم من الناس.