* التمهيد
إنَّ اللغاتِ تتأثرُ بحضارات الأمم ونظمِها، وتقاليدها، وعقائدها، واتجاهاتها النفسية والثقافية وغير ذلك من شئون الحياة الاجتماعية، وكلّ تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة التعبير وهي اللغة، لذلك تُعَدُّ اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب. فكلما اتسعتْ حضارةُ الأمةِ، وكَثُرتْ حاجاتُها، ورقي تفكيرها، وتهذيتْ اتجاهاتُها النفسيةُ، نهضت لغتُها وسمتْ أساليبُها وتعددتْ فيها فنونُ القول (اللغة والمجتمع ص13).
واللغة العربية أصدق شاهدٍ على ما نقول فقد عُدَّتْ في مقدِّمة اللغات الراقية لما وصلت إليه من تهذيب في ألفاظها وسموٍّ في أساليبها، ودقةٍ في تراكيبها، ومرونة في التعبير عن حاجاتها، وتنوعت فنون القول فيها حتى سحرت كثيراً من الباحثين- قدماء ومحدثين- فرأوها أفضل اللغات وأفصحها، وأجملها، وفي ذلك يقول ابن جنيِّ من القدماءِ: (وذلك أنّا نسأل علماءَ العربيةِ مِمَّنْ أصلُه عَجَميٌّ وقد تدرب بلغته قبل استعرابه عن حال اللغتين، فلا يجمع بينهما، بل لايكاد يقبل السؤال عن ذلك، لبعده في نفسه، وتقدم لطف العربية في رأيه وحسهِ. سألت غيرَ مرَّةٍ أبا عليٍّ- رضي الله عنه.. عن ذلك، فكان جوابه عنه نحواً مما حكيته... ولم نر أحداً من أشياخنا فيها- كأبي حاتم وبُنْدَار وأبي عليٍّ، وفلان وفلان- يُسوُّون بينهما، ولا يُقرّبون بين حاليهما. وكأنَّ هذا موضعٌ ليس للخلاف فيه مجالٌ لوضوحه عند الكافَّةِ) (الخصائص 1/243).
ويقول ابن خلدون: (وكانتِ الملكةُ الحاصلة للعرب من ذلك أحقَّ الملكاتِ وأوضَحها بياناً عن المقصد) (مقدمة ابن خلدون ص 546).
ويرى ابن فارس أن اللغة العربية أفضل اللغات وأوسعُها، وذلك دليلٌ على أنَّ اللَّهَ اختارها لأشرف رسله وخاتم رسالاته، فأنزل بها كتابه المبين (الصاحبي ص 16).
وإلى مثل هذا ذهب السيوطيُّ وغيره من القدماء (المزهر في علوم اللغة وأنواعها 1/321).
وخلاصة القولِ أنَّ اللغة مرآةٌ ينعكس فيها كلُّ ما يسير عليه الناطقون بها في شئونهم الاجتماعية العامة والخاصة ويشمل ذلك العقائد والعادات، والتقاليد، والمبادئ وغير ذلك مما يصبغ اللغة بصبغة خاصّةٍ في جميع مظاهرها: في الأصواتِ، والمفرداتِ، و الدِّلالة، والقواعد، والأساليب. فما يكون عليه الأفراد على سبيل المثال- من حشمةٍ وأدبٍ في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ينعكس صداه في لغتهم.
فاللاتينيون مثلاً، يعبرون عن العورات والأمور المستهجنة والأعمال الواجب سترها بعباراتٍ صريحة ومكشوفةٍ ، على حين أنَّ العرب تتلمسُ أحسنَ الحيلِ وأدناها إلى الحشمةِ والأدب في التعبير عن هذه الأمور وغيرها مما له آثارٌ نفسيةٌ فتلجأُ إلى التَّلَطُف في الكلام، فتبلغ غرضها بأسلوبٍ ألطفَ وأحسنَ من الكشفِ والتصريحِ ويعيبون على الرّجل إذا كان يكاشفُ في ذلك ، (اللغة والمجتمع ص 55).
ويقولون: (فلانٌ لا يحسنُ التعريضَ إلا ثَلْبا) (الكناية والتعريض ص75).
والتعريض خلافُ التصريحِ.
والعربُ تُعبرُ عن الأفعال التى تُستر عن العيونِ وتتأذّى منها النفوس بألفاظٍ تدل عليها غير موضوعةٍ لها، تنزهاً عن إيرادها على جهتها وتَحَرُّزاً عمّا وُضِع لأجلها إذ الحاجة إلى ستر أقوالهم كالحاجة إلى سترِ أفعالهم فيتحرزون عن التصريح بالتعريضِ فيكنون عن لفظه، إكراماً لأنفسهم عن التلفظ به (المنتخب من كنايات الأدباء وارشادات البلغاء ص5).
وفي القرآن الكريم من التَّلَطُف في الأسلوب ما يدلُّ على كريم العبارات ونبيل الألفاظ، من نحو قوله تعالى: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ} (سورة البقرة، الآية 223).
وقوله تعالى: { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّساء }(سورة النساء، الآية 4).
وقولِهِ: { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (سورة النساء، الآية 21).
وقولِهِ: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةََ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } (سورة البقرة، الآية 187)
وقوله: { فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسا } (سورة المجادلة، الآية 58).
وقد كنى القرآن الكريم عن العمليّة الجنسية (العلاقة بين الرجل والمرأة) بألفاظٍ كريمة هي: السّر والحرثُ، والملامسة، والإفضاءُ، والرفثُ، والدخول، وغيرها (دلالة الألفاظ ص142).
1- تعريف التلطف لغة واصطلاحاً:
وفيه تعريف موجز بمعنى كلمة التلطف في اللغة، وبيان معناها الاصطلاحي لدى القدماء والمحدثين.
التَّلَطُف في اللغة من مادةِ (لطف) والمادةُ كما يرى ابنُ فارس تدورُ حول معنىً عامٍ واحدٍ هو الترفقُ (مقاييس اللغة مادة: لطف).
وفي التهذيب للأزهريّ: يروى عمروُ عن أبيه أنَّه قال: اللطيف: (الذي يُوصِل إليك أَرَبك في رفق. واللطيف من الكلام ما غَمُضَ معناه وخفي) (تهذيب اللغة مادة: لطف) 13/347).
وفي أساس البلاغة للزمخشريّ: (ومن المجاز... وتلطفتُ بفلانٍ: احتلتُ له حتى اطّلعتُ على أسراره) (أساس البلاغة مادة: لطف ص409).
وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية، والتَّلَطُف في قوله تعالى{فَلَيَأتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } (سورة الكهف الآية: 19).
أيّ وليترفّق في الحصول على ما يريد (معجم ألفاظ القرآن الكريم مادة: لطف).
ومما سبق يتضح لنا أنّ التَّلَطُف في اللغةِ يعني الترفق، غيرَ أنّه ترفقٌ لا يعدم الحيلة والفطنة والذكاء.
وقد فطن القدماء من علماء العربية لهذه الظاهرة ودرسوها تحت مباحث الكناية وأنواعها ودوافعها، واستعملوا بعض المصطلحات المتصلة بها مثل: تحسين اللفظ، وتلطيف المعنى، والكنايات اللطيفة، والتعريض، يقول المبرد: (ويكون من الكناية وذاك أحسنها الرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره قال الله عز وجل: { أُحِلَّ لكم ليلةَ الصّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكم}(سورة البقرة، الآية 187).
وقالَ جلّ ثناؤه: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء }(سورة النساء، الآية 43، وسورة المائدة الآية 6).
ويقول ابن فارس تحت باب الكناية: (الكناية لها بابان: أحدهما: أن يُكْنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسيناً للفظ، أو إكراماً للمذكور، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: { وَقَالوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدّتم عَلَيْنَا } (سورة فصلت، الآية 21).
قالوا إن الجلود في هذا الموضع كناية عن آراب الإنسان. وكذلك قوله جل ثناؤه: { وَلَكِنْ لاتُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (سورة البقرة، الآية 235).
كل هذا تحسين اللفظ. والكناية التى للتبجيل قولهم: (أبو فلان) صيانة لاسمه عن الابتذال. (الصاحبي، ص439).
وقد عقد الثعالبي في كتابه (فقه اللغة وسر العربية) لها فصلاً أسماه: فصل في الكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه ومن أمثلته التى ذكرها (فقه اللغة وسر العربية ص386).
قوله تعالى: { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (سورة البقرة، الآية 223).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لقائد الإبل التى عليها نساؤه: (رفقاً بالقوارير). بل إنه أفرد هذه الظاهرة بكتاب أسماه: (الكناية والتعريض) قال في وصفه: إنه كتاب خفيف الحجم، ثقيل الوزن، صغير الجرم، كبير الغنم، في الكنايات عمّا ستهجن ذكره، ويستقبح نشره...بألفاظ مقبولة تؤدي المعنى ، وتفصح عن المغزى، وتحسن القبيح، وتلطف الكثيف (الكناية والتعريض ص 3).
وممن أفرد هذه الظاهرة بالتأليف القاضى أبو العباس أحمد بن محمد الجرجاني (ت482هـ)، بكتاب أسماه: (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء) ذكر من فوائده، التحرز عن ذكر الفواحش السخيفة بالكنايات اللطيفة مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: {وإِذَا مرُّوا باللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} (سورة الفرقان، الآية 72).
أي كنوا عن لفظه، ولم يوردوه، فإنهم أكرموا أنفسهم عن التلفظ به، كما روى عن بنت أعرابي صرخت صرخة عظيمة، فقال لها أبوها: مالك ؟ قالت: لدغني عقرب. قال لها أين ؟ قالت: في الموضع الذي لا يضع فيه الراقى أنفه. وكانت اللدغة في إحدى سوأتيها، فتنزهت بذكرها عن لفظها (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء ص 10).
أمّا التَّلَطُف بالمعنى الاصطلاحي: فقد عُرِف في الدراسات الغربية الحديثة بمصطلح يوناني تعنى الدلالةُ الحرفيةُ له الكلامَ الحسن (المحظورات اللغوية ص17).
وقد تُرْجِمَ هذا المصطلح في العربية بألفاظٍ مختلفةٍ، فمن ذلك ما قاله الدكتور كمال بشر هو(حسنُ التعبير) (دور الكلمة في اللغة ص196).
وقال الدكتور كريم زكي (تحسينُ اللفظ) (المحظورات اللغوية ص17).
وعند الدكتور أحمد مختار (التَّلَطُف) (علم الدلالة ص240).
وعند الدكتور محمد علي الخولي (لطف التعبير) (معجم علم اللغة النظري ص 88).
وقد عرّفه أولمان بأنه: وسيلة مقنعة بارعةٌ لتلطيفِ الكلامِ وتخفيفِ وقعه (دور الكلمة في اللغة ص196).
وعرّفه أحمد مختار بأنه: إبدال الكلمةِ الحادةِ بكلمةٍ أقل حِدّةٍ أو أكثرَّ قبولاً (علم الدلالة ص240).
ويُعَدُّ هذا الأسلوبُ الوجهَ المشرق لظاهرةِ اللامِسَاسِ أو المحظوراتِ اللغوية، حيث يرى بعض علماء اللغة المحدثين أنَّ استبدال الكلماتِ اللطيفةِ الخالية مِن أىِّ مغزى سيءٍ أو مخيفٍ بكلمات اللامساسِ أو المحظورات اللغوية يُعَدُّ ضرباً من ضروب التَّلَطُف أو حسن التعبير أو تحسين اللفظ (دور الكلمة في اللغة ص196)، والمحظورات اللغوية ص14).
إنَّ اللغاتِ تتأثرُ بحضارات الأمم ونظمِها، وتقاليدها، وعقائدها، واتجاهاتها النفسية والثقافية وغير ذلك من شئون الحياة الاجتماعية، وكلّ تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة التعبير وهي اللغة، لذلك تُعَدُّ اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب. فكلما اتسعتْ حضارةُ الأمةِ، وكَثُرتْ حاجاتُها، ورقي تفكيرها، وتهذيتْ اتجاهاتُها النفسيةُ، نهضت لغتُها وسمتْ أساليبُها وتعددتْ فيها فنونُ القول (اللغة والمجتمع ص13).
واللغة العربية أصدق شاهدٍ على ما نقول فقد عُدَّتْ في مقدِّمة اللغات الراقية لما وصلت إليه من تهذيب في ألفاظها وسموٍّ في أساليبها، ودقةٍ في تراكيبها، ومرونة في التعبير عن حاجاتها، وتنوعت فنون القول فيها حتى سحرت كثيراً من الباحثين- قدماء ومحدثين- فرأوها أفضل اللغات وأفصحها، وأجملها، وفي ذلك يقول ابن جنيِّ من القدماءِ: (وذلك أنّا نسأل علماءَ العربيةِ مِمَّنْ أصلُه عَجَميٌّ وقد تدرب بلغته قبل استعرابه عن حال اللغتين، فلا يجمع بينهما، بل لايكاد يقبل السؤال عن ذلك، لبعده في نفسه، وتقدم لطف العربية في رأيه وحسهِ. سألت غيرَ مرَّةٍ أبا عليٍّ- رضي الله عنه.. عن ذلك، فكان جوابه عنه نحواً مما حكيته... ولم نر أحداً من أشياخنا فيها- كأبي حاتم وبُنْدَار وأبي عليٍّ، وفلان وفلان- يُسوُّون بينهما، ولا يُقرّبون بين حاليهما. وكأنَّ هذا موضعٌ ليس للخلاف فيه مجالٌ لوضوحه عند الكافَّةِ) (الخصائص 1/243).
ويقول ابن خلدون: (وكانتِ الملكةُ الحاصلة للعرب من ذلك أحقَّ الملكاتِ وأوضَحها بياناً عن المقصد) (مقدمة ابن خلدون ص 546).
ويرى ابن فارس أن اللغة العربية أفضل اللغات وأوسعُها، وذلك دليلٌ على أنَّ اللَّهَ اختارها لأشرف رسله وخاتم رسالاته، فأنزل بها كتابه المبين (الصاحبي ص 16).
وإلى مثل هذا ذهب السيوطيُّ وغيره من القدماء (المزهر في علوم اللغة وأنواعها 1/321).
وخلاصة القولِ أنَّ اللغة مرآةٌ ينعكس فيها كلُّ ما يسير عليه الناطقون بها في شئونهم الاجتماعية العامة والخاصة ويشمل ذلك العقائد والعادات، والتقاليد، والمبادئ وغير ذلك مما يصبغ اللغة بصبغة خاصّةٍ في جميع مظاهرها: في الأصواتِ، والمفرداتِ، و الدِّلالة، والقواعد، والأساليب. فما يكون عليه الأفراد على سبيل المثال- من حشمةٍ وأدبٍ في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ينعكس صداه في لغتهم.
فاللاتينيون مثلاً، يعبرون عن العورات والأمور المستهجنة والأعمال الواجب سترها بعباراتٍ صريحة ومكشوفةٍ ، على حين أنَّ العرب تتلمسُ أحسنَ الحيلِ وأدناها إلى الحشمةِ والأدب في التعبير عن هذه الأمور وغيرها مما له آثارٌ نفسيةٌ فتلجأُ إلى التَّلَطُف في الكلام، فتبلغ غرضها بأسلوبٍ ألطفَ وأحسنَ من الكشفِ والتصريحِ ويعيبون على الرّجل إذا كان يكاشفُ في ذلك ، (اللغة والمجتمع ص 55).
ويقولون: (فلانٌ لا يحسنُ التعريضَ إلا ثَلْبا) (الكناية والتعريض ص75).
والتعريض خلافُ التصريحِ.
والعربُ تُعبرُ عن الأفعال التى تُستر عن العيونِ وتتأذّى منها النفوس بألفاظٍ تدل عليها غير موضوعةٍ لها، تنزهاً عن إيرادها على جهتها وتَحَرُّزاً عمّا وُضِع لأجلها إذ الحاجة إلى ستر أقوالهم كالحاجة إلى سترِ أفعالهم فيتحرزون عن التصريح بالتعريضِ فيكنون عن لفظه، إكراماً لأنفسهم عن التلفظ به (المنتخب من كنايات الأدباء وارشادات البلغاء ص5).
وفي القرآن الكريم من التَّلَطُف في الأسلوب ما يدلُّ على كريم العبارات ونبيل الألفاظ، من نحو قوله تعالى: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ} (سورة البقرة، الآية 223).
وقوله تعالى: { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّساء }(سورة النساء، الآية 4).
وقولِهِ: { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (سورة النساء، الآية 21).
وقولِهِ: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةََ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } (سورة البقرة، الآية 187)
وقوله: { فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسا } (سورة المجادلة، الآية 58).
وقد كنى القرآن الكريم عن العمليّة الجنسية (العلاقة بين الرجل والمرأة) بألفاظٍ كريمة هي: السّر والحرثُ، والملامسة، والإفضاءُ، والرفثُ، والدخول، وغيرها (دلالة الألفاظ ص142).
1- تعريف التلطف لغة واصطلاحاً:
وفيه تعريف موجز بمعنى كلمة التلطف في اللغة، وبيان معناها الاصطلاحي لدى القدماء والمحدثين.
التَّلَطُف في اللغة من مادةِ (لطف) والمادةُ كما يرى ابنُ فارس تدورُ حول معنىً عامٍ واحدٍ هو الترفقُ (مقاييس اللغة مادة: لطف).
وفي التهذيب للأزهريّ: يروى عمروُ عن أبيه أنَّه قال: اللطيف: (الذي يُوصِل إليك أَرَبك في رفق. واللطيف من الكلام ما غَمُضَ معناه وخفي) (تهذيب اللغة مادة: لطف) 13/347).
وفي أساس البلاغة للزمخشريّ: (ومن المجاز... وتلطفتُ بفلانٍ: احتلتُ له حتى اطّلعتُ على أسراره) (أساس البلاغة مادة: لطف ص409).
وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية، والتَّلَطُف في قوله تعالى{فَلَيَأتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } (سورة الكهف الآية: 19).
أيّ وليترفّق في الحصول على ما يريد (معجم ألفاظ القرآن الكريم مادة: لطف).
ومما سبق يتضح لنا أنّ التَّلَطُف في اللغةِ يعني الترفق، غيرَ أنّه ترفقٌ لا يعدم الحيلة والفطنة والذكاء.
وقد فطن القدماء من علماء العربية لهذه الظاهرة ودرسوها تحت مباحث الكناية وأنواعها ودوافعها، واستعملوا بعض المصطلحات المتصلة بها مثل: تحسين اللفظ، وتلطيف المعنى، والكنايات اللطيفة، والتعريض، يقول المبرد: (ويكون من الكناية وذاك أحسنها الرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره قال الله عز وجل: { أُحِلَّ لكم ليلةَ الصّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكم}(سورة البقرة، الآية 187).
وقالَ جلّ ثناؤه: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء }(سورة النساء، الآية 43، وسورة المائدة الآية 6).
ويقول ابن فارس تحت باب الكناية: (الكناية لها بابان: أحدهما: أن يُكْنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسيناً للفظ، أو إكراماً للمذكور، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: { وَقَالوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدّتم عَلَيْنَا } (سورة فصلت، الآية 21).
قالوا إن الجلود في هذا الموضع كناية عن آراب الإنسان. وكذلك قوله جل ثناؤه: { وَلَكِنْ لاتُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (سورة البقرة، الآية 235).
كل هذا تحسين اللفظ. والكناية التى للتبجيل قولهم: (أبو فلان) صيانة لاسمه عن الابتذال. (الصاحبي، ص439).
وقد عقد الثعالبي في كتابه (فقه اللغة وسر العربية) لها فصلاً أسماه: فصل في الكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه ومن أمثلته التى ذكرها (فقه اللغة وسر العربية ص386).
قوله تعالى: { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (سورة البقرة، الآية 223).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لقائد الإبل التى عليها نساؤه: (رفقاً بالقوارير). بل إنه أفرد هذه الظاهرة بكتاب أسماه: (الكناية والتعريض) قال في وصفه: إنه كتاب خفيف الحجم، ثقيل الوزن، صغير الجرم، كبير الغنم، في الكنايات عمّا ستهجن ذكره، ويستقبح نشره...بألفاظ مقبولة تؤدي المعنى ، وتفصح عن المغزى، وتحسن القبيح، وتلطف الكثيف (الكناية والتعريض ص 3).
وممن أفرد هذه الظاهرة بالتأليف القاضى أبو العباس أحمد بن محمد الجرجاني (ت482هـ)، بكتاب أسماه: (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء) ذكر من فوائده، التحرز عن ذكر الفواحش السخيفة بالكنايات اللطيفة مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: {وإِذَا مرُّوا باللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} (سورة الفرقان، الآية 72).
أي كنوا عن لفظه، ولم يوردوه، فإنهم أكرموا أنفسهم عن التلفظ به، كما روى عن بنت أعرابي صرخت صرخة عظيمة، فقال لها أبوها: مالك ؟ قالت: لدغني عقرب. قال لها أين ؟ قالت: في الموضع الذي لا يضع فيه الراقى أنفه. وكانت اللدغة في إحدى سوأتيها، فتنزهت بذكرها عن لفظها (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء ص 10).
أمّا التَّلَطُف بالمعنى الاصطلاحي: فقد عُرِف في الدراسات الغربية الحديثة بمصطلح يوناني تعنى الدلالةُ الحرفيةُ له الكلامَ الحسن (المحظورات اللغوية ص17).
وقد تُرْجِمَ هذا المصطلح في العربية بألفاظٍ مختلفةٍ، فمن ذلك ما قاله الدكتور كمال بشر هو(حسنُ التعبير) (دور الكلمة في اللغة ص196).
وقال الدكتور كريم زكي (تحسينُ اللفظ) (المحظورات اللغوية ص17).
وعند الدكتور أحمد مختار (التَّلَطُف) (علم الدلالة ص240).
وعند الدكتور محمد علي الخولي (لطف التعبير) (معجم علم اللغة النظري ص 88).
وقد عرّفه أولمان بأنه: وسيلة مقنعة بارعةٌ لتلطيفِ الكلامِ وتخفيفِ وقعه (دور الكلمة في اللغة ص196).
وعرّفه أحمد مختار بأنه: إبدال الكلمةِ الحادةِ بكلمةٍ أقل حِدّةٍ أو أكثرَّ قبولاً (علم الدلالة ص240).
ويُعَدُّ هذا الأسلوبُ الوجهَ المشرق لظاهرةِ اللامِسَاسِ أو المحظوراتِ اللغوية، حيث يرى بعض علماء اللغة المحدثين أنَّ استبدال الكلماتِ اللطيفةِ الخالية مِن أىِّ مغزى سيءٍ أو مخيفٍ بكلمات اللامساسِ أو المحظورات اللغوية يُعَدُّ ضرباً من ضروب التَّلَطُف أو حسن التعبير أو تحسين اللفظ (دور الكلمة في اللغة ص196)، والمحظورات اللغوية ص14).