أطلس المغرب

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كل ما تريده موجود هنا .... مرحبا بك معانا


    التَّلَطف في الأساليب العربية

    lfirdawsse
    lfirdawsse


    عدد المساهمات : 38
    تاريخ التسجيل : 27/08/2009

    التَّلَطف في الأساليب العربية Empty التَّلَطف في الأساليب العربية

    مُساهمة  lfirdawsse الثلاثاء سبتمبر 01, 2009 7:51 am

    * التمهيد

    إنَّ اللغاتِ تتأثرُ بحضارات الأمم ونظمِها، وتقاليدها، وعقائدها، واتجاهاتها النفسية والثقافية وغير ذلك من شئون الحياة الاجتماعية، وكلّ تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة التعبير وهي اللغة، لذلك تُعَدُّ اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب. فكلما اتسعتْ حضارةُ الأمةِ، وكَثُرتْ حاجاتُها، ورقي تفكيرها، وتهذيتْ اتجاهاتُها النفسيةُ، نهضت لغتُها وسمتْ أساليبُها وتعددتْ فيها فنونُ القول (اللغة والمجتمع ص13).

    واللغة العربية أصدق شاهدٍ على ما نقول فقد عُدَّتْ في مقدِّمة اللغات الراقية لما وصلت إليه من تهذيب في ألفاظها وسموٍّ في أساليبها، ودقةٍ في تراكيبها، ومرونة في التعبير عن حاجاتها، وتنوعت فنون القول فيها حتى سحرت كثيراً من الباحثين- قدماء ومحدثين- فرأوها أفضل اللغات وأفصحها، وأجملها، وفي ذلك يقول ابن جنيِّ من القدماءِ: (وذلك أنّا نسأل علماءَ العربيةِ مِمَّنْ أصلُه عَجَميٌّ وقد تدرب بلغته قبل استعرابه عن حال اللغتين، فلا يجمع بينهما، بل لايكاد يقبل السؤال عن ذلك، لبعده في نفسه، وتقدم لطف العربية في رأيه وحسهِ. سألت غيرَ مرَّةٍ أبا عليٍّ- رضي الله عنه.. عن ذلك، فكان جوابه عنه نحواً مما حكيته... ولم نر أحداً من أشياخنا فيها- كأبي حاتم وبُنْدَار وأبي عليٍّ، وفلان وفلان- يُسوُّون بينهما، ولا يُقرّبون بين حاليهما. وكأنَّ هذا موضعٌ ليس للخلاف فيه مجالٌ لوضوحه عند الكافَّةِ) (الخصائص 1/243).

    ويقول ابن خلدون: (وكانتِ الملكةُ الحاصلة للعرب من ذلك أحقَّ الملكاتِ وأوضَحها بياناً عن المقصد) (مقدمة ابن خلدون ص 546).

    ويرى ابن فارس أن اللغة العربية أفضل اللغات وأوسعُها، وذلك دليلٌ على أنَّ اللَّهَ اختارها لأشرف رسله وخاتم رسالاته، فأنزل بها كتابه المبين (الصاحبي ص 16).

    وإلى مثل هذا ذهب السيوطيُّ وغيره من القدماء (المزهر في علوم اللغة وأنواعها 1/321).

    وخلاصة القولِ أنَّ اللغة مرآةٌ ينعكس فيها كلُّ ما يسير عليه الناطقون بها في شئونهم الاجتماعية العامة والخاصة ويشمل ذلك العقائد والعادات، والتقاليد، والمبادئ وغير ذلك مما يصبغ اللغة بصبغة خاصّةٍ في جميع مظاهرها: في الأصواتِ، والمفرداتِ، و الدِّلالة، والقواعد، والأساليب. فما يكون عليه الأفراد على سبيل المثال- من حشمةٍ وأدبٍ في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ينعكس صداه في لغتهم.

    فاللاتينيون مثلاً، يعبرون عن العورات والأمور المستهجنة والأعمال الواجب سترها بعباراتٍ صريحة ومكشوفةٍ ، على حين أنَّ العرب تتلمسُ أحسنَ الحيلِ وأدناها إلى الحشمةِ والأدب في التعبير عن هذه الأمور وغيرها مما له آثارٌ نفسيةٌ فتلجأُ إلى التَّلَطُف في الكلام، فتبلغ غرضها بأسلوبٍ ألطفَ وأحسنَ من الكشفِ والتصريحِ ويعيبون على الرّجل إذا كان يكاشفُ في ذلك ، (اللغة والمجتمع ص 55).

    ويقولون: (فلانٌ لا يحسنُ التعريضَ إلا ثَلْبا) (الكناية والتعريض ص75).

    والتعريض خلافُ التصريحِ.

    والعربُ تُعبرُ عن الأفعال التى تُستر عن العيونِ وتتأذّى منها النفوس بألفاظٍ تدل عليها غير موضوعةٍ لها، تنزهاً عن إيرادها على جهتها وتَحَرُّزاً عمّا وُضِع لأجلها إذ الحاجة إلى ستر أقوالهم كالحاجة إلى سترِ أفعالهم فيتحرزون عن التصريح بالتعريضِ فيكنون عن لفظه، إكراماً لأنفسهم عن التلفظ به (المنتخب من كنايات الأدباء وارشادات البلغاء ص5).

    وفي القرآن الكريم من التَّلَطُف في الأسلوب ما يدلُّ على كريم العبارات ونبيل الألفاظ، من نحو قوله تعالى: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ} (سورة البقرة، الآية 223).

    وقوله تعالى: { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّساء }(سورة النساء، الآية 4).

    وقولِهِ: { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (سورة النساء، الآية 21).

    وقولِهِ: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةََ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } (سورة البقرة، الآية 187)

    وقوله: { فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسا } (سورة المجادلة، الآية 58).

    وقد كنى القرآن الكريم عن العمليّة الجنسية (العلاقة بين الرجل والمرأة) بألفاظٍ كريمة هي: السّر والحرثُ، والملامسة، والإفضاءُ، والرفثُ، والدخول، وغيرها (دلالة الألفاظ ص142).


    1- تعريف التلطف لغة واصطلاحاً:

    وفيه تعريف موجز بمعنى كلمة التلطف في اللغة، وبيان معناها الاصطلاحي لدى القدماء والمحدثين.

    التَّلَطُف في اللغة من مادةِ (لطف) والمادةُ كما يرى ابنُ فارس تدورُ حول معنىً عامٍ واحدٍ هو الترفقُ (مقاييس اللغة مادة: لطف).

    وفي التهذيب للأزهريّ: يروى عمروُ عن أبيه أنَّه قال: اللطيف: (الذي يُوصِل إليك أَرَبك في رفق. واللطيف من الكلام ما غَمُضَ معناه وخفي) (تهذيب اللغة مادة: لطف) 13/347).

    وفي أساس البلاغة للزمخشريّ: (ومن المجاز... وتلطفتُ بفلانٍ: احتلتُ له حتى اطّلعتُ على أسراره) (أساس البلاغة مادة: لطف ص409).

    وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية، والتَّلَطُف في قوله تعالى{فَلَيَأتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } (سورة الكهف الآية: 19).

    أيّ وليترفّق في الحصول على ما يريد (معجم ألفاظ القرآن الكريم مادة: لطف).

    ومما سبق يتضح لنا أنّ التَّلَطُف في اللغةِ يعني الترفق، غيرَ أنّه ترفقٌ لا يعدم الحيلة والفطنة والذكاء.

    وقد فطن القدماء من علماء العربية لهذه الظاهرة ودرسوها تحت مباحث الكناية وأنواعها ودوافعها، واستعملوا بعض المصطلحات المتصلة بها مثل: تحسين اللفظ، وتلطيف المعنى، والكنايات اللطيفة، والتعريض، يقول المبرد: (ويكون من الكناية وذاك أحسنها الرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره قال الله عز وجل: { أُحِلَّ لكم ليلةَ الصّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكم}(سورة البقرة، الآية 187).

    وقالَ جلّ ثناؤه: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء }(سورة النساء، الآية 43، وسورة المائدة الآية 6).

    ويقول ابن فارس تحت باب الكناية: (الكناية لها بابان: أحدهما: أن يُكْنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسيناً للفظ، أو إكراماً للمذكور، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: { وَقَالوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدّتم عَلَيْنَا } (سورة فصلت، الآية 21).

    قالوا إن الجلود في هذا الموضع كناية عن آراب الإنسان. وكذلك قوله جل ثناؤه: { وَلَكِنْ لاتُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (سورة البقرة، الآية 235).

    كل هذا تحسين اللفظ. والكناية التى للتبجيل قولهم: (أبو فلان) صيانة لاسمه عن الابتذال. (الصاحبي، ص439).

    وقد عقد الثعالبي في كتابه (فقه اللغة وسر العربية) لها فصلاً أسماه: فصل في الكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه ومن أمثلته التى ذكرها (فقه اللغة وسر العربية ص386).

    قوله تعالى: { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (سورة البقرة، الآية 223).

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم لقائد الإبل التى عليها نساؤه: (رفقاً بالقوارير). بل إنه أفرد هذه الظاهرة بكتاب أسماه: (الكناية والتعريض) قال في وصفه: إنه كتاب خفيف الحجم، ثقيل الوزن، صغير الجرم، كبير الغنم، في الكنايات عمّا ستهجن ذكره، ويستقبح نشره...بألفاظ مقبولة تؤدي المعنى ، وتفصح عن المغزى، وتحسن القبيح، وتلطف الكثيف (الكناية والتعريض ص 3).

    وممن أفرد هذه الظاهرة بالتأليف القاضى أبو العباس أحمد بن محمد الجرجاني (ت482هـ)، بكتاب أسماه: (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء) ذكر من فوائده، التحرز عن ذكر الفواحش السخيفة بالكنايات اللطيفة مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: {وإِذَا مرُّوا باللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} (سورة الفرقان، الآية 72).

    أي كنوا عن لفظه، ولم يوردوه، فإنهم أكرموا أنفسهم عن التلفظ به، كما روى عن بنت أعرابي صرخت صرخة عظيمة، فقال لها أبوها: مالك ؟ قالت: لدغني عقرب. قال لها أين ؟ قالت: في الموضع الذي لا يضع فيه الراقى أنفه. وكانت اللدغة في إحدى سوأتيها، فتنزهت بذكرها عن لفظها (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء ص 10).

    أمّا التَّلَطُف بالمعنى الاصطلاحي: فقد عُرِف في الدراسات الغربية الحديثة بمصطلح يوناني تعنى الدلالةُ الحرفيةُ له الكلامَ الحسن (المحظورات اللغوية ص17).

    وقد تُرْجِمَ هذا المصطلح في العربية بألفاظٍ مختلفةٍ، فمن ذلك ما قاله الدكتور كمال بشر هو(حسنُ التعبير) (دور الكلمة في اللغة ص196).

    وقال الدكتور كريم زكي (تحسينُ اللفظ) (المحظورات اللغوية ص17).

    وعند الدكتور أحمد مختار (التَّلَطُف) (علم الدلالة ص240).

    وعند الدكتور محمد علي الخولي (لطف التعبير) (معجم علم اللغة النظري ص 88).

    وقد عرّفه أولمان بأنه: وسيلة مقنعة بارعةٌ لتلطيفِ الكلامِ وتخفيفِ وقعه (دور الكلمة في اللغة ص196).

    وعرّفه أحمد مختار بأنه: إبدال الكلمةِ الحادةِ بكلمةٍ أقل حِدّةٍ أو أكثرَّ قبولاً (علم الدلالة ص240).

    ويُعَدُّ هذا الأسلوبُ الوجهَ المشرق لظاهرةِ اللامِسَاسِ أو المحظوراتِ اللغوية، حيث يرى بعض علماء اللغة المحدثين أنَّ استبدال الكلماتِ اللطيفةِ الخالية مِن أىِّ مغزى سيءٍ أو مخيفٍ بكلمات اللامساسِ أو المحظورات اللغوية يُعَدُّ ضرباً من ضروب التَّلَطُف أو حسن التعبير أو تحسين اللفظ (دور الكلمة في اللغة ص196)، والمحظورات اللغوية ص14).
    lfirdawsse
    lfirdawsse


    عدد المساهمات : 38
    تاريخ التسجيل : 27/08/2009

    التَّلَطف في الأساليب العربية Empty 2- المواقف التي يعمد المتكلم فيها إلى التلطف:

    مُساهمة  lfirdawsse الثلاثاء سبتمبر 01, 2009 7:52 am

    يعمد المتكلمُ إلى هذا الأسلوب في موقفين:

    أحدهما: فرديٌّ حيث يعمد المتكلمُ إلى التَّلَطُف في موقفٍ خاصٍ، وذلك لايتأتى لكل أفراد المجتمع، بل هو من خصائصِ ذوي الفطنة، وسرعةِ البديهةِ والذكاءِ، وقد أشار القدماءُ من علماء العربية إلى هذا الموقف وحاولوا علاجَه تحت بابِ ما أَسْمَوْهُ: (التخلصُ من الكذب بالتورية عنه) مستشهدين على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب).

    ومن أمثلة ذلك ما يُروى من أنَّ الخليفةَ المنصورَ كان في بستانٍ ومعه الربيع، فقال له: ما هذه الشجرةُ ؟ قال الربيع: شجرةُ الوِفاق يا أمير المؤمنين، وكان اسم تلك الشجرةِ شجرةَ الخلافِ، فتفاءلَ المنصورُ بذلك وعَجِبَ من ذكائه (الكناية والتعريض ص71).

    ومن ذلك مارُوى عن الخليفة المأمون أنه كان بيده مساويك، فسأل الحسنَ بنَ سهلٍ ما هذه ؟ فقال: ضدُّ محاسنك يا أميرَ المؤمنين، وكره أن يقولَ مساويك (الكناية والتعريض ص71).

    ويبدو أنَّ هذا الموقفَ هو الذى أوحى لابنِ دريدٍ بفكرةِ تأليفِ كتابهِ (الملاحن) حيثُ إنَّ الفكرةَ الأساسيةَ التى يقوم عليها الكتابُ هي استخدامُ اللفظِ المشتركِ على سبيلِ التوريةِ لمعانٍ أخرى خلاف ماهو ظاهرٌ، و قال عنه: (هذا كتابٌ ألفناه ليفزعَ إليه المجبرُ المضطهدُ على اليمينَ المكره عليها، فيعارضُ بما رسمناه، ويضمرُ خِلافَ ما يُظهرُ ليسلمَ من عادية الظالم) (الملاحن ص15).

    الموقف الآخر: موقف جماعي وذلك يعود إلى تواضع الجماعة اللغويّة أو المجتمع بشكل عام، فاللغة بوصفها ظاهرةً اجتماعيةً تخضع الفردَ لِمَا ترسمه فالدوافع النفسيةُ أو العاطفيةُ التي تفرضُ على الجماعةِ اللغوية نهجاً محدداً في التعبير ليس للفرد إلا محاكاتُها واتباعُها، وذلك ينطبق على جُلِّ الدوافع التي تعود إلى الحياة الاجتماعية كالكياسة والتأدبِ والخوفِ والتطيرِ والتفاؤلِ والتشاؤمِ ونحوها من الدوافع التي تلجأ الجماعة اللغويةُ إلى التَّلَطُف بشأنها بعباراتٍ كريمةٍ وألفاظٍ نبيلةٍ، وقد مرّ معنا أنَّ العربَ مثلاً يعيبون على الرجل إذا كان يكاشفُ ويصرحُ فيما حَقُهُ السترُ والتحرزُ والأدبُ.

    والأسباب الاجتماعية واضحةٌ جداً في مراعاة التَّلَطُف في مثل هذا الموقفِ، ولكنَّ الحالةَ الاجتماعية تختلفُ من أمّةٍ إلى أمةٍ، ومن بيئة إلى بيئة، ومن جيلِ إلى جيلٍ، فلعل ما يدعو إلى التَّلَطُف عند أمّةٍ لايدعو إليه عند أمّةٍ أخرى، ولا أدَلَ على ذلك إلا ما سبق وأشرنا إليه من أنّ اللاتين مثلاً يعبرون عن العورات والأمور المستهجنة بعبارات صريحة مكشوفة على حين أنَّ العرب تتلمس أحسنَ الحيل وأدناها إلى الحشمةِ والتأدب في التعبير عن هذه الأمورِ بأسلوبٍ ألطفَ وأحسنَ كما سبق ذكره في التمهيد.

    وهذا الموقف هو الذى دفع كلاًّ من الثعالبيِّ والجرجانيِّ إلى إفراد هذه الظاهرة بالتأليفِ. يقول الثعالبيِّ عن كتابه: (هذا كتابٌ، خفيفُ الحجمِ، ثَقِيلُ الوزنِ، صَغيرُ الجرمِ، كَثيرُ الغُنْمِ، في الكنايات عمَّا يُستهجنُ ذكرُ، ويستقبحُ نشرُه، أو يستحيا من تسميته، أو يُتطيرُ منه، أو يسترفعُ ويُصانُ عَنْهُ، بألفاظِ مقبولةٍ تؤدي المعنى، وتفصح عن المغزى، وتحسن القبيحَ، وتلطف الكثيفَ) (الكناية والتعريض ص 3).

    ويقول الجرجانيُّ عن كتابه أيضاً: (فمن فوائده التحرزُ عن ذكرِ الفواحشِ السخيفة بالكنايات اللطيفة، وإبدال ما يَفْحُشُ ذِكْرُه في الأسماع، بما لاتنبو عنه الطباعُ ، .. ومنها تركُ اللفظِ المتطير به إلى ماهو أجملُ منه... ومنها الأمورُ الجاريةُ بين البلغاءِ والأدباءِ ومداعباتهم بمعاريضَ لايفطن لها إلا البلغاءُ... ومنها التوسعُ في اللغاتِ، والتفنِنُ في الألفاظِ والعبارات) (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء ص 4، 5).

    أمَّا المَعِينُ الذي نهلا منه مادَة كتابيهما فهو القرآن الكريمُ، وأخبارُ الرسول صلى الله عليه وسلم وكلامُ العربِ من قلائد الشعراءِ، ونصوصِ البلغاءِ، وملح الظرفاءِ في أنواع النثر والنظم.

    وبالتأمل في أبوابِ الكتابين نلحظ أنَّ أبوابَ الثعالبي في كتابه (الكنايةِ والتعريض) أشملُ للدوافعِ النفسيةِ والعاطفية التى تدفع المتكلمين إلى التَّلَطُف، ففي حين قصر الجرجانيُّ معظمَ أبوابه على العلاقة بين الرجل والمرأة -الألفاظ الجنسية- وما يتصل بها، نجد الثعالبيَّ يضيفُ أبواباً جديدة تتعلق ببعض العاداتِ والعقائدِ العربيةِ كالتفاؤلِ والتشاؤمِ والعيوب الخَلْقِيةِ والخُلُقِيةِ وما يتصل بها.

    يقول الثعالبيُّ: (العربُ تكنى عن المرأة بالنعجة والشاةِ والقلوص والسرحة والحرثِ والفراشِ والعتبةِ والقارورةِ... وبكلها جاءت الأخبارُ ونطقت الأشعارُ) (الكناية والتعريض ص50).

    ومن أمثلة الكتابين ما يلي:

    ثم يأتي بشواهد على ذلك من النثر والشعرِ وأحياناً من القرآن الكريم. ويختمُ كلامه حول هذه الكناياتِ الخاصةِ بالمرأة بقوله (وإنما تقع مثلُ هذه الكنايةِ ممّن لايجسرون على تسميتها أو يتذممون من التصريح بها) (الكناية والتعريض ص6).

    وفي الكناية عمّا يجرى بين الرجالِ والنساء من الشهوةِ والتماسِ اللذة، يقول (ولا أحسنَ ولا أجملَ ولا ألطفَ من كنايةِ اللهِ تعالى (الكناية والتعريض ص13).

    عن ذلك بقوله: { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } (سورة النساء، الآية 21).

    وقولِهِ عز وجل: { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } (سورة الأعراف، الآية 189).

    وقولِهِ تعالى: { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } (سورة البقرة، الآية 187).

    وقوله تعالى: { فَالآنَ بَاشِرُوْهُنَّ وابْتَغُوا مَاكَتَبَ اللهُ لَكُمْ} (سورة البقرة، الآية 187).

    وقوله: { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (سورة البقرة، الآية 223).

    وقوله: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } (سورة النساء، الآية 24).

    وقوله في الكناية عن طالب ذلك حكايةً عن يوسفَ عليه السلام: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نّفْسِي } (سورة يوسف، الآية 26).

    ويقول الجرجانيُّ (وتقول العربُ: في الكنايةِ عن دخول الإنسان بأهله: بنى فلانٌ على أهله، وأصلُه أنَّ كلَّ من أراد الزّفافَ بنى على زوجتهِ قبةً، فقيل لكل داخل بانٍ) (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء ص23).

    وفي الكنايةِ عن الختانِ، يقولُ الثعالبيُّ: (ويكنى عن الختان بالطهر والتطهير). ويقول: (ومن لطائف الأَطِبَاءِ كِنَايَتهُمْ عن حشوِ الأمعاءِ بالطبيعةِ وعن البولِ بالماءِ، وعن القيء بالتعالج) (الكناية والتعريض ص24).

    ويقول في الكنايةِ عن بعض الصفاتِ الخَلْقِيةِ والخُلُقيَّة، ويكنى عن الأعمى بالمحجوبِ، وعن الأعورِ بالممتعِ وعن البخيلِ بالمقتصد (الكناية والتعريض ص 46، 47).

    وفي الكناية عن القتل والموت، يقول الثعالبيُّ: (وتقول العرب في الكناية عن الموت: استأثر اللهُ به، أسعده اللهُ بجواره، نقله اللهُ إلى دار رضوانه، اختاره الله) (الكناية والتعريض ص62).

    ويقول الجرجانيُّ (ومن ذلك قولُهم لحق فلان باللطيف الخبير، ولعق فلانٌ اصبعه، واستوفى أكله، واصفرت أناملهُ، ومضى لسبيله وَدُعِيَ فأجاب، وَقَضَى نحبه، والنحب النذر.) (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء ص64).

    ويقول الجرجانيُّ: (واعلم أنَّ العربَ كما يكنون عن الموت تطيراً من ذكره، كذلك يكنون عن القتل، فيقولون: ركب فلانٌ الأغرَّ الأشقَر إذا قُتل، ويكنى عن قتل الملوك خاصة بالمشعرة، إذ كانوا يكبرون أن يقولوا قُتِل، فيقولون أشعر من إشعار البدن) (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء ص67، 69).

    ويقول الثعالبيُّ في الكناية عمّا يُتطيرُ من لفظه: (يكنى عن اللديغ بالسليم، وعن الأعمى بالبصير، وعن المهلكةِ بالمفازة)(الكناية والتعريض ص71).

    ويقول الجرجانيُّ: (وأعلم أنّ العربَ تتطير من ذكر البرصِ، فتكنى عنه بالوضحِ ، ومنه سُمِّيَ جذيمةُ الوضاحُ). ويقولُ: (ومما يُتَفَاءَل بذكره قولُهُمْ للفلاةِ مفازةٌ ؛ لأن القفارَ في ركوبها الهلاكُ فكان حقُها أن تسمّى مَهْلَكَةً ولكنهم أحسنوا لفظها تطيراً بها، وعكسوه تفاؤلاً، ومن ذلك تسمية اللديغ سليماً والأعور ممتعاً تطيراً من ذكر العور) (الكناية والتعريض ص70).
    lfirdawsse
    lfirdawsse


    عدد المساهمات : 38
    تاريخ التسجيل : 27/08/2009

    التَّلَطف في الأساليب العربية Empty 3- دوافع التلطف وأسبابه

    مُساهمة  lfirdawsse الثلاثاء سبتمبر 01, 2009 7:53 am

    يرى أولمان أنّ دوافع التَّلَطُف (حسن التعبير) دوافعٌ نفسيّةٌ، وأنَّ المتكلمَ يعمد إلى استعمالِ هذا الأسلوبِ مع كلِّ شيءٍ مقدسٍ أو ذي خطرٍ، أو مثيرٍ للرعب والخوفِ، كما يطبقه على الأشياءِ الشائنةِ، أو غيرِ المقبولةِ لدى النفس (دور الكلمة في اللغة ص196).

    وَ يُجْمِل بعضُ اللغويين المعاصرين هذه الدوافعَ في ثلاثةٍ هي: الخوفُ والفزعُ، الكياسةُ والتأدبُ، الخجلُ والاحتشامُ (المحظورات اللغوية ص51).

    وأبرز دوافع التَّلَطُف، ما يلي:

    أولاً: الكياسةُ والتأدبُ والاحتشامُ: ويعد مجالُ المرأة وعلاقتها بالرجل وما يتصلُ بذلك من أحوالٍ أو أفعالٍ أو أعضاءٍ أبرز وأكبرَ المجالات التى تدفعُ المتكلمُ إلى التَّلَطُف بشأنها، إذ التَّلَطُف في هذا المجال من باب التحرز عن ذكر هذه الألفاظ أو التصريح بها، فيعدل المتكلم إلى الكناية، وهي مطلوبةٌ مستحبةٌ ليس في العربية فحسب بل في معظم اللغاتِ، لأن كلماتِ هذا المجالِ مفضوحةٌ ينفر منها الناس (دلالة الألفاظ ص142).

    وقد سبقت الإشارة إلى تعليلِ الجرجانيُّ لكثرةِ الكناياتِ عن المرأة عند العرب، وأنّها من باب التذمم من التصريح باسم المرأة. كما هو الحال في وقتنا الحاضر.

    وفيما يتعلق بهذا المجال يقول الدكتور عمر فروّخ من علماء العربية: وكان قد لفت نظري ورودَ جُملةٍ في كتاب (فقه اللغة) للثعالبيِّ هي: (لعل أسماءَ النكاح تبلغُ مائة كلمةٍ عن ثقاتِ الأئمةِ بعضُها أصليٌّ ، وبعضُها مَكْنيٌ) وكنت في أثناء قراءاتي المتكررة للقاموس المحيط للفيروز آبادي، أستغرب كثرة الألفاظِ الجنسيةِ، حتى خُيِّل إليّ أنَّه لا تخلو مادةٌ من موادِ المعجم العربيّ من لفظٍ جنسيّ دالٍ على اسمٍ أو فعلٍ أو حالٍ لذلك الجانبِ من حياة البشر وحياة الحيوان، ثم يستطرد قائلاً: وعددتُ أنا الألفاظ المتعلقةَ بهذا المدركِ في القاموسِ فوجدتُها تزيدُ على ألفٍ ومائتين... وحاولت تعليلاً لهذه الكثرة.. فبان لي أن جانباً كبيراً منها من باب الكناية... حيث كان العربيُّ يَكْنى به عن المدرك الجنسيّ بلفظٍ... فإذا اشتهر هذا اللفظُ ودلَّ على ما كان يُكْنى عنه صراحةً استحيا العربيُّ من الاستمرارِ في استعمالِه فانتقلَ إلى كنايةٍ جديدةٍ غامضةٍ) (عبقرية اللغة ص57).

    ثانياً: التفاؤل والتشاؤم: حيثُ يُعَدُّ من أبرزِ دوافعِ التَّلَطُف في اللغاتِ، ويشملُ كلَ الكناياتِ الخاصةِ بالمجالاتِ التى نستبينُ منها الضعف الإنسانيَّ كالموتِ والمرضِ وأسماءِ بعضِ الحيواناتِ، والجنِ، والسوامّ، ونحوِها مما يلعب التفاؤلُ والتشاؤمُ فيها دوراً كبيراً، فهي مجالاتٌ تثير ألفاظُها الخوفَ والهلعَ في نفوسِ البشر وينفرون من سماعها، ويتفادون ذِكْرَها، فِراراً مما تبعثه في الأذهانِ من آلام.وسرُّ التَّلَطُف في هذا المجالِ، هو ما استقر في أذهانِ الناسِ منذ القدمِ من الربط بين اللفظِ ومدلولهِ ربطاً وثيقاً حتى إنّه يُعتقدُ أنّ مجردَ ذكرِ الموتِ يستحضرُ الموتِ، وأنّ النطق بلفظٍ الحيةِ يدعوها من جحرها فتنهشُ من ناداها أو ذكرَ اسمَهَا(دلالة الألفاظ ص144).

    ولعل هذا يفسر لنا تعددَ مسمياتِ بعضِ الألفاظِ المترادفةِ في العربيةِ كلفظ الداهيةِ التي قال عنها حمزة الأصفهانيُّ: (إنَّ تكاثرَ أسماءِ الدواهي من إحدى الدواهي)(التنبيه على حدوث التصحيف ص 132).

    ثالثاً: التبجيل والتعظيم: حيث يعدُّ التبجيلُ والتعظيمُ في العربية من أبرزِ دوافع التَّلَطُف، ويشمل الكناياتِ الخاصةَ بالمجالاتِ التى نستبينُ منها التبجيل الإنسانيَ للأشياءِ ويدخل في هذا المجالِ الهيبةُ والاحترام والولوعُ بالشيءِ وحبه.

    ومن أمثلةِ ذلك: إطلاقُ لفظِ الأَبِ على العمِ، وإطلاقُ لفظ الأمِّ على الخالةِ، ونحو ذلك (فقه اللغة للثعالبي ص367).

    ولعل هذا يفسر لنا أيضاً تعدد مسمياتِ بعضِ الألفاظِ المترادفةِ في العربية، كلفظِ الحبِّ الذى ذكروا له ستين اسماً (روضة المحبين ونزهة المشتاقين ص16).

    ولفظِ العسَلِ الذى ذكروا له ثمانين اسماً (المزهر في علوم اللغة وأنواعها ص1/402)

    إنّ ماتدل عليه هذه الألفاظُ لا يُعدُّ في حقيقته مصدرَ استهجانٍ لدى المجتمع كما هو الحالُ في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة وما يتصل بذلك، كما أنّه لا يعدّ مصدرَ ضعفٍ لدى الجماعة اللغوية كألفاظ الموتِ والمرضِ ونحوها، بل إنَّها أسماء نابعة من شدةِ ولوعِ المجتمعِ العربيّ بما تدل عليه هذه الألفاظُ وما ذاك التعددُ لمسمياتها إلا لتعلق القلوب بها وتبجيلها وتفسير ذلك أن اللفظَ إذا شاع استعمالُه في الدلالةِ على هذه المعاني فقد تأثيرهُ، ففقد قيمتَه الدلالية التعبيريةَ، من أجل ذلك كان العربيُّ ينتقلُ باللفظ من مجازٍ أصبح مألوفاً ضعيف التأثيرِ إلى مجازٍ جديدٍ أحسنَ وقعاً في النفس وأكثرَ أثراً (عبقرية اللغة ص58).
    lfirdawsse
    lfirdawsse


    عدد المساهمات : 38
    تاريخ التسجيل : 27/08/2009

    التَّلَطف في الأساليب العربية Empty 4- وسائل التلطف:

    مُساهمة  lfirdawsse الثلاثاء سبتمبر 01, 2009 7:54 am

    أما عن الوسائلِ التى يقصدها المتكلمُ حالَ تلطفه، فأهمها:

    أولاً: الاستعمال المجازيُّ: يعدّ المجاز من أهم الوسائلِ التي يتوسل بها المتكلمُ للتعبير عن المعاني المحظورةِ أو المقدسةِ لديه، فيعمدُ إلى الكنايةِ أو التوريةِ أو التعريضِ ونحوِها يقول الجرجانيُّ: (واعلم أنَّ الأصلَ في الكناياتِ عبارةُ الإنسانِ عن الأفعالِ التى تُستر عن العيونِ عادةً من نحو قضاءِ الحاجةِ والجماعِ، بألفاظِ تدل عليها غير موضوعةٍ لها، تنزهاً عن إيرادها على جهتها وتحرزاً عمّا وُضِعَ لأجلها، إذ الحاجةُ إلى سَتْرِ أقوالِها كالحاجةِ إلى سترِ أفعالِها، فالكنايةُ عنها حِرْزٌ لمعانيها) (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء ص 5، 6).

    ويقول أحدُ المحدثين: (والكنايةُ ليست إلا صورةً مهذّبةً متحضرةً مما يُسمّى تحريمُ المفرداتِ فكثيراً ما يقع لدى المتكلمين أن يكونَ لبعض الألفاظِ طابعُ السريةِ والخفاءِ فيمنعُ الأفرادَ، من استعمالِها)(اللغة، فندريس، ص 281).

    ولعل هذا يفسر لنا ترادفَ الكثيرِ من الألفاظ في العربيةِ كلفظِ الداهية، والموتِ، والأسدِ ونحوها تبعاً للتسميةِ المجازيةِ عن طريق الكنايةِ وصيرورتها إلى الحقيقةِ بفعل الاستعمال (الترادف في اللغة ص125).

    وبيان ذلك أنّ معظمَ هذه الألفاظِ المترادفةِ إنَّما هي كناياتٌ شاعَ استعمالُها على الألسنِ حتى أصبحتْ حقائقَ، ومَرَدُّ ذلك أنَّ معظمَ هذه الألفاظِ ممّا يتحرجُ الناسُ من التعبير عنها بأسمائها الصريحة مراعاةً للآداب الاجتماعيةِ والاعتباراتِ الأخلاقية والنفسيةِ، ولهذا تلجأ الجماعةُ اللغويةَ إلى الكنايةِ بلفظٍ مرادفٍ، ومما يعزز ذلك ما حكاه أبوحيان التوحيديِّ عن ابن فارسٍ، حيث قال: (حدثني ابنُ فارس: جرى بين يديه أسماءُ الفرْج وكثرتُها، فقال بعضُ الحاضرين: ماذا أرادتِ العربُ بتكثيرها مع قبحها ؟ فقال: لما رأوا الشيءَ قبيحاً جعلوا يكنون عنه، وكانت الكنايةُ عند فشوها تصيرُ إلى حد الاسمِ الأولِ فينتقلون إلى كنايةٍ أخرى... وعلى هذا كثرت الكناياتُ وليس غرضُهُمْ تكثيرُهَا) (مثالب الوزيرين الصاحب بن عباد وابن العميد ص254).

    ولا يقتصر الأمرُ على الألفاظِ التى يتحرجُ الناسُ عن التعبير عنها بألفاظها الصريحةِ- كالألفاظِ الدالةِ على النكاحِ أو الألفاظِ الدَّالةِ على الخوفِ كلفظ الداهية، بل يتجاوَزُهُ إلى الألفاظِ ذاتِ القدسيةِ في حياة المجتمعِ كلفظِ الحبِّ، وكلِّ ما عَلِق بالقلبِ، يقول ابنُ قيمِ الجوزيةِ: (بابُ أسماءِ المحبةِ: لما كان إلفُهُمْ لهذا المسمى أشدَّ وهوَ بقلوبهم أَعْلَقَ كانت أسماؤه لديهم أكثر. وهذا عادتُهم في كلِّ ما اشتدَّ إلْفُهُمْ له أو كَثُرَ خُطُورُه على قلوبهم، تعظيماً له، أو اهتماما به، أو محبة له، فالأول: كالأسدِ والسيفِ، والثاني: كالداهيةِ، والثالث: كالخمرِ، وقد اجتمعت هذه المعانيِ الثلاثةُ في الحبِّ، فوضعوا له قريباً من ستين اسماً، وهي: المحبَّةُ، والعلاقةُ، والهوى، والصَبْوةُ، والصبابةُ، والشَّغَفُ، والمِقَه والوَجْدُ، والكلفُ، والتتيّمُ، والعشقُ، والجوى، والدَنَفُ، والشجوُ، والشوقُ... الخ) (روضة المحبين ص16).

    فهذه الألفاظُ تَفْقِدُ عند شيوعها على الألسنِ تأثيرهَا البلاغيُّ، فتفتقدُ بذلك قيمتها الاجتماعية، فيلجأ العربيُّ إلى لفظٍ آخرَ أقوى أثراً في النفس وأحسن وقعاً على الآذان، وعلى هذا تعددتْ مسميات الشيءِ الواحدِ من باب التبجيلِ والتعظيمِ لا الاستهانةِ والاستهجانِ.

    بل إن من أبرزِ أسبابِ ظاهرةِ التضاد في العربية التعبيرُ بلفظِ محبوبٍ عن لفظٍ مكروهٍ لأسبابٍ نفسيّةٍ حيثُ لعبت غريزةُ التفاؤلِ والتشاؤمِ عند العربِ دوراً كبيراً في نشأةِ بعضِ ألفاظِ هذه الظاهرةِ، فرأينا العربَ تعدلُ عن الألفاظِ الدالةِ على المعنى الحقيقيِّ إلى ضدِّها تشاؤماً من التصريح بها، وتفاؤلاً بضدها، يقول ابنُ قتيبةَ:

    (ومن المقلوبِ أن يوصفَ الشيءُ بضدِّ صفتِهِ للتطيرِ والتفاؤلِ كقولِهم للديغِ سليمُ تطيراً من السُقْمِ وتفاؤلاً بالسلامة، وللعطشان ناهلٌ أيّ سينهلُ يعنون يروى، وللفلاة مفازةٌ أي منجاة وهي مَهْلَكَةٌ) (تأويل مشكل القرآن ص185) ويقاسُ على ذلك قولُ العربِ بصيرٌ للأعمى، وقافلةٌ للمسافرين تفاؤلاً برجوعهم إذ الأصل فيها الدلالةُ على الراجعين من السفر. ونحو ذلك (في اللهجات العربية ص29، البلاغة وقضايا المشترك ص120).

    بل تجاوز العربُ ذلك إلى المبالغةِ في الوصفِ، فوصفوا الأشياءَ بغير صفاتِها الحقيقيةِ خوفاً عليها من العينِ والحسدِ، قال أبوعبيدةَ: (مهرةٌ شوهاءُ قبيحةٌ وجميلةٌ، قال أبوحاتم مفسراً ذلك: لا أظنهم قالوا للجميلةِ شوهاء إلا مخافةَ أن تُصيبَها عينٌ، كما قالوا: للغراب أعورَ لحدةِ بصرِهِ) (ثلاثة كتب في الأضداد، الأصمعي والسجستاني وابن السكيت ص137، في اللهجات العربية، أنيس ص209).

    ثانياً: التحريفُ الصوتيُّ: إنّ الأثرَ الناجم من التحرّج من استعمال المفرداتِ لاينحصرُ في الاستعمالِ المجازيِّ بل يتجاوَزُهُ إلى التحريفِ الصوتيِّ للكلمةِ، وذلك عن طريقِ الإبدالِ لتخفيفِ ما تنطوي عليه الكلمةُ من الخطرِ أو الاستهجان، دون أن ينقص ذلك من قيمتها الدلاليةِ- على حد قول بعض المحدثين (اللغة، فندريس ص280).

    وفي استطاعة كلِّ إنسان في هذه الحالةِ أن يفهمَ المرادَ على الفورِ، وكأنَّ اللسانَ قد زلَّ وهو ينطق الكلمة ولكنَّ الخطأَ هنا متعمدٌ لغاياتٍ خفيةٍ أو لمراعاة التَّلَطُف. ونلاحظ هذا التحريفَ الصوتيِّ للكلماتِ واضحاً في مجالِ العلاقةِ بين الرجل والمرأة ومايتصل بها، ومن أمثلة ذلك:

    قولُهم: بكَّ الرجلَ المرأةَ يبكها بكا، وهكها يهكها هكا. (الإبدال لابن السكِّيت 1/88، المحظورات اللغوية، كريم ص62).

    وقولهم: طفزها وطعسها وطخزها وطحسها ودعزها ودعسها (الإبدال لابن السكِّيت 2/119، المحظورات اللغوية، كريم ص62).

    وقولهم: عسلها وغسلها، وحَطَأَها وفَطَأها، عَصَدَها وعَزدها ودَسَمَها ودَفَسَها، وفَحَجَها وفَخَجَها، كلٌ ذلك إذ نَكَحَها (المنتخب من غريب كلام العرب 1/138)

    وكلها كنايات عن الجماع.

    كما نجد في المعاجمِ وكتب الإبدالِ أيضاً كلماتٍ كثيرةً ذاتَ دلالاتٍ سلبيةٍ تتميزُ بالتحريف الصوتيِّ كالكلماتِ الدَّالةِ على ضعفِ الإنسانِ أو دمامته ونحو ذلك، مثل قولِهم: رجلٌ حَزَوَّرٌ وَهَزَوَّرٌ للضعيف، ورجل حَبَلَّقٌ وَهَبَلَّقٌ إذا كان دميماً، ورجل قَنْثَرٌ وَكَنْثَرٌ إذا كان صغير الحجمِ (الإبدال لأبي الطيب 1/321، 325، 2/357. المحظورات اللغوية ص62)

    وعَشَبَةٌ وعشمةٌ إذا كان يابساً من الهزال، وقَحْبَةٌ وَقَحْمَةٌ لكل كبيرةٍ مسنة، ورجل بُحْتُر وبُهْتُر قصيرٌ، وموتٌ ذُؤَافٌ وذُعافٌ وزؤأف وهو الذى يعجل القتل، والجَلَهُ والجلَحُ وهو انحسار الشعرِ عن مُقَدَّم الرأسِ، وأَيْمٌ وأَيْنٌ للحية (الإبدال لابن السكيت ص71، 77، 85، 92، 93).

    ونحو ذلك مما يمكنُ تفسيرُه تبعاً للتحريفِ الصوتي الذى يتوسلُ به المتكلمُ بغرضِ التَّلَطُف، وتعليلُ ذلك وبيانه أنَّ هذه الألفاظَ مما يتحرجُ الناسُ من التَعبيرِ عنها بألفاظِها الصوتية مراعاةً للآداب الاجتماعية والاعتباراتِ الأخلاقيةِ والنفسيَّةِ، ولهذا تلجأ الجماعةُ اللغويَّةُ إلى التحريفِ في صورةِ الكلمةِ كلما شاع استعمالُها كما لجأت إلى الكنايةِ بالمرادفِ والمضادِّ وغيرها من الألفاظ التى تتقاسمُ معها المجالَ نفسَهُ والدوافِعَ نَفْسَهَا، مما سبقت الإشارةُ إليه.

      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 3:47 am